(يا فؤادي لا تسل أين الهوى.. كان صرحاً من خيال فهوى..)
من منا لم يسمع هذه الكلمات للشاعر إبراهيم ناجي في قصيدته الأطلال
التي جعل منها صوت أم كلثوم الخالد ولحن الموسيقار الراحل رياض السنباطي
أسطورة الغناء العربي حتى وقتنا الراهن.
من منا لم يطرب إلى لحنها (المعجزة) الذي أضاف إلى روائع أم كلثوم رائعة أخرى بقيت ذخيرة للفن العربي الأصيل...
ربما تستغربون العودة إلى الوراء، وربما الكثير من شبابنا لم يسمع
بـالأطلال، ولا بغيرها من الألحان والكلمات، التي عبر عنها الكثير من
مطربينا العرب، وكان من خلفهم شعراء يقدسون الكلمة، وملحنون يسهرون ليالي
طوالاً، من أجل صياغة نغمات كانت تنصهر بدمهم، فتعطي شجناً، وفرحاً،
وطرباً هو اليوم أشبه بغائب عنا...
لماذا فقد الغناء العربي الأصيل قيمته...؟
لماذا لم يعد لنا ذاك البال الطويل للاستماع لأغنية طرب مدتها نصف ساعة..؟
لمَ جزء كبير من شبابنا لا يعرف السنباطي، سيد درويش، محمد عبد الوهاب، الشيخ إمام؟
لمَ احتلت الأغنية التي تولد وتنتشر في ساعات مكانة واسعة، رغم أن بعضها
لا ينطوي على قيمة فنية عالية سواء من حيث الكلمة، أو اللحن، أو المؤدي،
ولن نقول المطرب، فصفة المطرب، لا يمكن أن نمنحها لمن يغني فيردد معه
الصدى، ليصدق أكذوبة روعة حباله الصوتية...
«الوطن» طرحت المشكلة على الشارع طالبة منهم تبرير غربتهم عن الطرب
الأصيل، فكانت الآراء متعددة، متضاربة بين رافض للماضي، وبين مؤيد للتطوير
حتى بالغناء، فنحن بعصر السرعة..
دنيا حمدان صيدلانية ترى أن الزمن تغير، فنحن في عام 2009 وهذا يعني أن
التقدم لا يقتصر فقط على الطب، والتكنولوجيا، وعالم الإنترنت، بل يشمل
أيضاً أشياء كثيرة حتى الغناء، فمثلاً أنت في عائلتك حينما تعود بالذاكرة
وتستعرض صوراً قديمة لأسرتك، تضحك من قلبك على ملامحهم كيف تغيرت مع مرور
الزمن، ربما لا تعجبك ثيابهم القديمة، أو تسريحة شعرهم، وهكذا هو حال
الطرب القديم.
ندى ترى أن الوقت لم يعد يسمح للاستماع إلى أغنية طويلة لأم كلثوم أو
لغيرها، فكثرة الأعمال والانشغالات تحرمك حتى من الاستمتاع بأغنية مدتها
خمس دقائق، فما بالك بساعة..
هلا الشريف خريجة صحافة تؤكد أنها تشعر بملل كبير جداً عندما تستمع إلى
أغاني الطرب القديم، لأنها حسب رأيها بعيدة كل البعد عن واقعها، ولا تعبر
عنها، وتضيف لقد اعتدنا على فكرة أننا في زمن السرعة، ولا نملك صبراً
للأغنية الطويلة، فأنا أشعر بملل كبير، ولكن يمكن أن أحتمل قليلاً في حال
استمعت لعبد الحليم، لأن الموسيقا المرافقة لأغانيه قريبة مما يمكن أن
نسميه عصرنا، ولا تتكرر كثيراً، فأنت لا تشعر بملل نتيجة التكرار.
هلا تقول إن إحدى صديقاتها أقنعتها بالاستماع إلى إحدى أغنيات أم كلثوم،
ولكن بعد مرور عشر دقائق لم تجد نفسها إلا وهي تردد بصوت عال (وبعدين ما
خلصنا)..
في المقابل هناك في الجانب الآخر عشاق للطرب الأصيل حتى النخاع، لدرجة
يخوضون حروباً خلال نقاشات الأصدقاء، ويستميتون دفاعاً عن كل كلمة، ولحن..
ندى قدوره تؤكد أن نهارها لا يكون طبيعياً إذا لم تستمع فيه لأغنية تمثل
الطرب الجميل، كميادة الحناوي، وردة، أم كلثوم، عزيزة جلال، التي لا بد أن
تسمعها كل مساء مهما كان الأمر، ندى ترى أنه مهما مر الزمن وتغيرت الأيام
فالأغنية الطربية الأصيلة تبقى تاريخاً للفن العربي، والإنسان المثقف
والحساس لا بد أن يجد ذاته في تلك الأغنيات، ندى لا تستطيع أن تتخيل نفسها
وهي تطلب من أحد محلات الأشرطة الغنائية، شريطاً لهيفا، أو نانسي عجرم، أو
غيرهما من المطربات والمطربين الذين يتمتع عدد منهم بأصوات جميلة فعلاً،
ولكن ليس بيدها الأمر فهي عاشقة الأغاني القديمة، الأغاني التي تأخذها حسب
تعبيرها، إلى حيث اللا مكان (أنت واللحن والذكرى)..
معتز ناصر صاحب محل تسجيلات يروي قصصا عن الأشخاص الذين يدخلون إلى محله،
منهم من يريد أغاني قديمة لم نعد نجدها في الأسواق كأغاني علي الحجار التي
فقدت نتيجة انعدام طلبها، ومنهم من يطلب أغاني هابطة لدرجة تستغرب كيف
يحفظون أسماء من يغنيها.
معتز يرى أن جيل الشباب الجديد بات مقلقا فهو لم يعد يهتم بتفاصيل كثيرة
من قديمنا العربي ليس فقط الغناء، وهذا يعود لأسباب كثيرة، منها فقدان
التربية على الأصالة في المنازل، وفي المدرسة، فمثلاً الأهل في البيت
دائماً يشاهدون المحطات التي تعرض أغاني هابطة وسريعة، بالتالي الصغار في
المنزل سيحفظون ما يسمعون، وسيعتاد سمعهم على هذه الأغاني، وسيرفضون
غيرها، فالعملية تربوية محضة..
الإعلامي خيام قدور يؤكد أنه من الأشخاص الذين ولدوا في بيت يعشق
الموسيقا، وربي على النغم الأصيل من خلال والده الذي كان يجمعهم كل مساء
ويغني لهم لسيد درويش، وعبد الوهاب، وغيرهما، وأن تربيته الفنية داخل
أسرته حصنته من كل الأغاني التي تطرح في الأسواق والتي تشوه الموسيقا
العربية والشعر العربي، خيام يرى أن الخلل في التربية فأنت حين تربي ابنك
أو ابنتك على شيء ما يعتادان عليه، ولهذا فالمسؤولية تقع ليس على المروجين
للأغنيات فاقدة القيمة بل على كل شخص، فأنت حين تربي طفلاً على الأصالة
مهما سمع من أغان فلن تؤثر فيه فذاكرته تختزن أجمل ما لُحن وكتب، خيام
يضحك من نفسه لأن أي أغنية جديدة يسمعها لا تختزنها ذاكرته سوى ساعات، لأن
ذاكرة طفولته بالأصالة محصنة، ويتساءل ما هذه الأغاني التي تستحق أن تكون
داخل ذهني لزمن طويل، في حين لم تأخذ من صانعيها إلا ساعات، هذه جريمة بحق
الموسيقا الأصيلة...
خاتمة:
(أنساك ده كلام.... أنساك يا سلام)... من منا قادر على إغماض عين ذاكرته
عن هذه الكلمات التي لا تحتاج إلا ليد حنونة تمسح عنها غبار السنوات..
ليعود الذهب للمعان من جديد...